تأطير مجزوءة الفلسفة
مستوى الجذع المشترك
أستاذ :عصام الخدير العمراني
تتأطر هده المجزوءة ضمن سياق فلسفي يعتبر مبدئيا قيام علاقة جدلية بين الفكر و الواقع انطلاقا من الفكرة القائلة أن الفكر ليس سوى انعكاس و ثمرة و نتاج لهدا الواقع بكل مكوناته و تفاعلاته ؛ أو ما يمكن الاصطلاح عليه بالبنية الفوقية بتصوراتها و تمثلاتها و معتقداتها و التي تبلور شروط إنتاجها البنية التحتية و ما تنطوي عليه من علاقات و أنماط و أدوات الإنتاج المعيشة كواقع.
تقدم الفلسفة نفسها في صورتها الأولى كنمط من التفكير تم اعتماده لتفسير الظواهر الطبيعية المحيطة بالإنسان و هي بدلك أصبحت بديلا ضروريا و حتميا لنمط التفكير الغيبي الخرافي و الأسطوري الذي كان معتمدا من قبل و لم يعد قادرا على مواكبة و مسايرة التحولات الاجتماعية و السياسية و الاقتصادية للمجتمع اليوناني الجديد.
على مستوى آخر تقدم الفلسفة نفسها كأداة للمعرفة و ليس كمعرفة بحد ذاتها ؛ بمعنى أن دلالتها اللغوية تحيل على معنى محبة الحكمة و اقتفاء أثرها و البحث الدؤوب عنها في مقابل الحكمة التي تدل على امتلاك المعرفة اعتقادا من الفيلسوف فيتاغورس من حيث هو أول من أطلق على هدا النمط من التفكير العقلاني اسم " فيلوسوفيا ".دلك أن الحكمة في تصوره من شأن و اختصاص الآلهة دون البشر الدين لا يسعهم سوى السعي وراءه و التقرب بالتالي من مالكيها .
و هكذا ارتبطت فعالية العقل و اعتماده كأداة لبلوغ الحكمة " المعرفة الحقة " بتحرر الإنسان من قيود الأسطورة مثلما ارتبط تحرر العقل من الأشكال العتيقة للنظم السياسية و الاقتصادية و الاجتماعية السابقة عن النظام الديموقراطي .
هدا يعني في صميمه أن ميلاد الفلسفة كتفكير عقلاني شكل قطيعة مع الخيال الأسطوري و رسم بالتالي طريقا و منهجا جديدا في البحث والنظر ساهم في اغناء مسيرة المعرفة و تطويرها (ج.ب.فرنان ) الذي يرى أن الأسطورة كانت فيما قبل حكاية و لم تكن حلا لإشكال. لكنها اتخذت في الفلسفة صورة إشكال صريح الصياغة مما يعني حدوث تحول دهني بظهور فكر وضعي يتعارض مع كل شكل من أشكال الخوارق الطبيعية... مثلما ساهم في ظهور تفكير مجرد يخلص الواقع من هيمنة الطبيعة التي فرضتها الأسطورة عليه.
أن هده النقلة النوعية و التحول الجدري على مستوى تدبير الشـأن الاجتماعي و الثقافي و السياسي و ما أفرزه هدا التحول من مظاهر الحرية و المواطنة و المشاركة الجماعية و النقاش الحر القائم على البرهنة و الاستدلال المنطقي و النقد و حرية التعبير و إمكانية المسائلة في مقابل التسليم و الاقتناع القسري و احتكار القرارات و المعرفة من طرف واحد أو فئة أو أسرة معينة . إن شيوع ثقافة الحوار و تداولها بالساحات العمومية " الآغورا" و داخل المراكز و المؤسسات السياسية هو ما سمح بافتتاح مغامرة فكرية لم تنته بعد...أي مغامرة العقل الإنساني في بحثه الدؤوب عن الحقيقة عبر ابتكاره لأشكال متنوعة من الاستدلالات و البراهين و لآليات وتقنيات التفكير و التعبير على مستوى المناهج و المفاهيم التي حاول و لا زال و من خلالها فهم أشياء العالم و ظواهره و بتغير هده التقنيات و الأدوات يتغير فهم و إدراك حقائق أشياء العالم .
تتم معالجة هده القضايا المرتبطة بنشأة نمط التفكير الفلسفي و شيوعه و تطوره و المرتبطة بالتحولات الجذرية التي شهدتها بلاد اليونان ابتداء من القرن الثامن ق.م بالاعتماد على نصين مركزيين نص ل ج.ب فرنان "الفلسفة في مواجهة الأسطورة " و الذي يستعرض من خلاله انتقال المجتمع اليوناني إلى نظام الديموقراطية و أثره في انتقال الفكر اليوناني من نمط التفكير الخرافي الأسطوري القائم على الميتوس إلى نمط التفكير الفلسفي العقلاني القائم على اللوغوس مبرزا بأسلوب تقابلي مميزات و خصائص كل منهما (شفوي/مكتوب) (خرافي/عقلاني) (وحي/اكتشاف) ( احتكار/ عرض عمومي ) (خطاب الوجدان/خطاب العقل ) ( استهداف اللذة / استهداف الحس النقدي ) .
نص ف.نتشه "بداية فعل التفلسف " الذي يستعرض من خلاله أهمية الفكرة القائلة أن الماء أصل كل الأشياء و هي الفكرة التي يعتبرها صاحب النص نقطة بداية الفلسفة دلك إن طاليس لو قال أن الماء يتحول إلى تراب لكان قوله مجرد فرضية علمية مجانبة للصواب لكنه خطا خطوة واحدة عن المستوى الأدنى للنظريات الفيزيائية في عصره من خلال عرضه لفرضية وحدة الكون القائمة على حضور عنصر الماء و تحولاته الفيزيائية " إن العالم في نظره يخرج من المحيط و يعود إليه " فالماء ليس رمزا وحسب بل يدل على الوجود بكل مكوناته ...انه مبدأ كل شئ أي أن الكل واحد . و هي مسلمة قاده إليها حدسه الفلسفي هدا الحدس الذي نصادفه في جميع الفلسفات التي حاولت باستمرار التعبير عن هده المسلمة.
يتم رصد هده المغامرة العقلية و العقلانية من خلال محطاتها الأساسية التي واكبت تطور الفلسفة وهي ثلاث لحظات
اللحظة الأولى : العصر اليوناني
اتخذ العقل معنى اللوغوس و هو تمثل عقلي لعقل الطبيعة بمعنى أن الطبيعة ليست مظهرا عشوائيا و عفويا لرغبات الآلهة و الأرواح و القوى الخفية و إنما هي نظام و قانون متكامل أساسه واحد و مظاهره و ظواهره متعددة و متنوعة و العقل الإنساني هو أسمى وأدق وسيلة لبلوغ وفهم وإدراك مضمونه و قواعده ( التصور الأفلاطوني/ التصور الأرسطي) ( المثل / الظلال) ( الجوهر / العرض)
اللحظة الثانية : العصر الوسيط
اتخذ العقل معنى يتعارض مع الدين لما ينطوي عليه من مظاهر الشك و الامتناع عن التسليم بوجود الخالق و قدرته الخارقة على الفعل و تجاوز حدود العقل الإنساني الذي تنحصر مهمته في التمييز بين الخير و الشر والخطأ و الصواب بغاية التكفير عن الخطيئة الأولى . لدلك حاول الفلاسفة في هده المرحلة التوفيق بين الحكمة و الشريعة باعتبارهما يقومان على مبدأ واحد هو مبدأ العقل . فالعقل الطبيعي ليس سوى مظهرا من مظاهر العقل الإلهي . و العقل الإنساني ليس سوى أداة تمكننا من فهم و بلوغ العقل الإلهي من خلال فهم و إدراك العقل الطبيعي :" إن معرفة الصانع إنما تتم من خلال معرفة صنعته .." . ثم إن الشرع نفسه ندب إلى اعتبار الموجودات و حث على دلك في غير ما آية من الكتاب السماوي .( نص لابن رشد " الفلسفة و الدين " )
اللحظة الثالثة : العصر الحديث
اتخذ العقل معنى الطريقة أو المنهج الكفيل بتخليص الفكر الإنساني من كل أشكال الخرافـة والأسطورة و تصحيح ما يشوبه من أخطاء و مغالطات التي يستمدها من الحواس و تعود على اعتمادها كحقائق و مسلمات بمعنى أن العقل أصبح يمثل الأداة الناجعة للتمييز بين الصواب و الخطأ و بين ما يتماشى مع البناء المنطقي للعقل و ما يتنافى معه و ينفلت من مطابقته و بالتالي لم يعد مفهوم العقل يحيل على اللوغوس أو التيوس بقدر ما يحيل على الأداة التي بواسطتها الناس يفكرون و ينتجون الحقائق. (نص ديكارت : " خطاب في الطريقة ") بناأ على منهج صارم يمنع العقل من السقوط في الخطأ والضن و بادئ الرأي . انه منهج الشك المؤدي إلى الحقيقة بقواعده الأربعة الأساسية :
التخلص من الأحكام المسبقة / تفكيك الأفكار إلى أجزاء / إعادة تركيب الأجزاء بكيفية اكثرعقلانية / القيام بمراجعة عامة للنتائج المحصل عليها .
ملاحظة :بإمكان الدرس الفلسفي الانفتاح على مواقف مغايرة لاغناء تصر التلميذ و إبعاده عن السقوط في النظرة الأحادية و هكذا يمكن الإشارة إلى :
/ تراجع قيمة الفلسفة مع ظهور الفكر اللاهوتي المسيحي اد لم تعد الفلسفة سوى خطابا في اللاهوت (كما تشير إلى دلك قولة هيجل : لم تكن الفلسفة في العصر الوسيط سوى لاهوتا) و ذلك راجع للعوامل السياسية و الاجتماعية الداخلية للمجتمعات المسيحية و هيمنة الطبقات الارستقراطية بدعم و تواطؤ مع رجال الدين :الاكليروس .
/ تطور و ازدهار الفلسفة العقلانية الإسلامية و بلوغ أوجها مع الفكر الرشدي لاعتمادها من جهة على الفلسفة اليونانية في صورتها الأرسطية و من جهة أخرى لما أفرزته الأوضاع السياسية الداخلية من أشكال الجدال الفكري حول القضايا الدينية و الدنيوية و محاولة الدفاع عنها بأسلوب حجاجي سجالي.
/ارتباط الفلسفة في العصر الحديث بالحركة الإنسية كحركة فكرية دأبت على إعادة النظر في قيمة الإنسان و رد الاعتبار إليه ككائن يتعالى و يسمو عن باقي الكائنات الأخرى بتفرده بميزة العقل و التفكير و الوعي و أيضا ككائن يتحدد وجوده كمركز للكون .
/لم يكن التصور الديكارتي وحده سائدا فالشرارة الأولى لانطلاق العلوم الحقة (الفيزياء/ الطبيعيات) كمجال اختباري تجريبي أفرزت تصورا جديدا للعقل لم يعد معه بالإمكان تصور أن الأشياء عليها إن تنتظم وفق نظام العقل بل إن العقل هو الذي عليه أن ينتظم وفق نظام الأشياء . بل لم يعد العقل سوى وظيفة عليا لوظائف الدماغ .(استحضار التقابل بين التصور العقلاني الكلاسيكي للعقل و بين التصور التجريبي الامبريقي الحديث)
إن تنوع و تعدد و اختلاف وجهات نظر الفلاسفة حول تصوراتهم للموضوعات التي اتخذوها مادة لتفكيرهم و تأملهم و معالجتهم و تحليلهم لا تلغي إجماعهم و توافقهم حول القواعد و الأدوات المعتمدة أثناء ممارسة فعل التفلسف. و هي قواعد تعود في أصولها إلى بداية و نشأة الفلسفة ذاتها . و يمكن إجمال ها في المفاهيم التالية:
الدهـــشة / الســـؤال / البحــث المستــمر عــن الحقــيـقة
مفهوم الدهشة يحيل في معناه اللغوي على انبهار و تعجب و حالة صدمة تصيب الإنسان أمام الظواهر الغير عادية و الغير متوقعة و تلك دهشة عادية ما دامت تخص كل الناس على اختلاف مستوياتهم العقلية و المعرفية إلا أن الدهشة الفلسفية هي دهشة الفيلسوف من كل ما هو عادي و مألوف أو ما يعتقد الناس العاميون انه كذلك باعتباره موضوعا ليس على قدر من البداهة و الوضوح . فالدهشة الفلسفية تعمل على تغريب ما اضفى الناس عليه صفة البداهة و التسليم لدلك يذهب الفلاسفة إلى اعتبار الدهشة هي دلك الأصل و الينبوع الدافق لفعل التفلسف .
الدهشة ليست مجرد حالة نفسية وجدانية تصيب الإنسان المتأمل بل هي وضعية منتجة للسؤال كتعبير لغوي عن حالة الدهشة .ليس كل سؤال ينتج عن الدهشة هو بالضرورة سؤال فلسفي . فالسؤال الفلسفي يروم المعرفة و ينطوي على قصدية و بالتالي فهو يتميز عن السؤال العادي بكونه:
/ سؤال إشكالــي: أي ينطوي على مجموعة من الأسئلة المترابطة ويقتضي الجواب الفلسفي بهذا المعنى تقديم إجابات عن كل الأسئلة المتفرعة عنه.
/ سؤال شمولــي : الشمولية تعني الإحاطة بجوانب موضوع السؤال الفلسفي و معالجته من كل زواياه الممكنة و هدا يقتضي افتراض وجود علاقة منطقية بين الأسئلة الإشكالية . مثلما يقتضي افتراض وجود بنية حجاجية تبرر و تؤكد هده العلاقة المنطقية و بالتالي فالسؤال الفلسفي هو بالضرورة سؤال منطقي حجاجي .
/ سؤال عقلانــي : المنطق يحيل في معناه على بناء نظري متماسك ينطلق من مقدمات و ينتهي إلى نتائج يفترض أن تكون منسجمة و متطابقة مع هذه المقدمات و بهذا المعنى يكون السؤال الفلسفي سؤالا عقلانيا نسقيا .
من الضروري الوقوف على أنواع و أقسام الأسئلة الفلسفية التي تداولها الفكر الإنساني . فالمفكر طه عبد الرحمن يقدم نوعين كانا سائدين في مرحلتين متمايزتين :
/ المرحلة اليونانية القديمة: وهي المرحلة التي اتخذ فيها السؤال طابعا تراكميا للمعرفة.
/ المرحلة الأوربية الحديثة: و هي المرحلة التي اتخذ فيها السؤال طابعا نقديا يروم فحص المعرفة و تدقيقها و مساءلتها بغاية الكشف عن مكامن ضعفها و خللها.
(الاشتغال على نص طه عبد الرحمن : في رحاب الفلسفة )
السؤال عموما تعبير ليس فقط عن حالة الدهشة أو الصدمة بل هو أيضا تعبير عن رغبة ملحة في المعرفة و في الكشف عن الحقيقة و في مواصلة البحث عنها و اقتفاء أثرها. و الفيلسوف عادة لا يقتنع بالأجوبة المعطاة أو الجاهزة بل يعمل و بكيفية مستمرة على إعادة النظر فيها و إعادة صياغتها بكيفية أكثر و ضوحا و بداهة و عقلانية لذلك يذهب كثير من الفلاسفة و المهتمين بالفكر الفلسفي إلى اعتبار السؤال عماد الفلسفة و عمودها الفقري إذ لا تستقيم إلا بحضوره بل يمكن القول انه الفلسفة عينها ( الفلسفة تساؤل / الفلسفة دهشة / الفلسفة بحث مستمر عن الحقيقة / الفلسفة هي علم السؤال) .
لقد كان للسؤال النقدي بالغ الأثر في تفتق المعرفة العلمية مثلما مكنها من مراجعة ذاتها و إعادة النظر في نتائجها و العمل على تطوير أساليبها و طرقها و مناهجها و أدواتها بغاية تأسيس معرفة أدق و أعمق و أكثر مطابقة للواقع. إلا أن الانتقال من مجال التأمل إلى مجال الفحص و التدقيق افرغ التفكير المعرفة من طابعها الشمولي و ظهرت التخصصات كفروع دقيقة لموضوع معرفة عام. و هكذا اخذ العلم ينفصل بالتدريج عن الفلسفة اعتقادا منه انه ضمن لنفسه أسلوبه الخاص و بالتالي فهو لم يعد بعد في حاجة ماسة للفلسفة إن لم تكن قد أصبحت تشكل عائقا حقيقيا أمام تقدمه و تطوره . الواقع يفند هذا الاعتقاد على اعتبار أن الفلسفة هي أم العلوم و المعارف و بالتالي فالعلم غير قادر على الاستغناء عنها لسببين اثنين أولهما أن هناك كثير من الأسئلة التي لا يستطيع العلم على الأقل في الوقت الراهن تقديم أجوبة واضحة ومقنعة بصددها و ثانيهما أن العالم لايكون عالما إلا بعد استشعاره القدرة على تقديم جواب على سؤاله الإشكالي و بالتالي فهو يظل إلى حينذاك فيلسوفا بكل ما للكلمة من معنى .
إن فكرة نهاية الفلسفة و استنفاذها للمهمة المعرفية التي كانت منوطة بها منذ نشأتها لا يتبناها إلا الأشخاص العمليون الذين يربطون المعرفة بالمنفعة و المصلحة الذاتية و الضيقة داخل دائرة لا تتجاوز أقاربهم ومعارفهم المقربين . إن الفلسفة على خلاف ذلك تجعل منا ليس فقط أفرادا ينتمون إلى جماعة بل مواطني العالم و بالتالي فهي توسع آفاق فكرنا و تفتحنا على الممكن و تثري خيالنا. ولو استطاع العلم أن يخلق عالما خاليا من الفقر و الجوع و المرض فانه و بالتأكيد سيضل عاجزا في غياب فلسفة تنير له الطريق و توجهه لمصلحة الإنسان على أن يخلق عالما فاضلا.
الفلسفة بغض النظر عن جانبها المعرفي تضل أداة لترسيخ كل القيم الإنسانية و تجدرها في السلوك الإنساني تجاه ذاته و تجاه الآخرين و تجاه العالم. الفلسفة هي الحرية و هي العقل و هي التسامح و قبول الآخر المختلف وهي نبذ لكل أشكال العنف وتأسيس الفضيلة.